مهندس /الطاهر يونس يكتب...أم دقرسي... أُم شهداء الكرامة
لم تكن أم دقرسي مدينة عادية على خارطة الوطن بل كانت ملحمة تسير على قدمين، تُسطّر حكايات البطولة بمداد الدم وتُخلّد أسماء أبطالها في ذاكرة التاريخ. هي الأرض التي كانت تستقبل كل عام طابور السير للقوات المسلحة ذلك الطابور الذي لم يكن مجرّد مشهد عسكري عادي بل كان لوحة وطنية متكاملة رسمت ملامح أبطال وسواعد لحماية الوطن.
في كل عام كانت شوارع أم دقرسي تفيض بالروح الوطنية، تُذبح الذبائح وتنطلق خطب الحماسة كما تنطلق الأهازيج في مواسم الحصاد إذ كان اليوم أشبه بمهرجان تلتقي فيه البطولة مع الرجولة، ويُشحذ فيه عزْم الضباط وهم على أعتاب التخرج. مشهد يفيض بالعظمة ويزهو بالكبرياء، حتى صار هذا اليوم حدثاً ينتظره الناس بشغف، تماماً كما ينتظر الفلاح موسم الحصاد في الهند، أو كما كانت مصر الفرعونية تنتظر يوم الزينة.
في تلك المدينة، لم تكن البطولة خياراً بل كانت طبعاً في النفوس تُغرس في قلوب الصغار كما تُغرس البذور في الأرض الخصبة. تربى شباب أم دقرسي على حب البيادة وعشق الوطن، نشأوا يحملون هم الدفاع عن أرضهم كما يحمل الجندي سلاحه في الميدان لذا لم يكن غريباً أن تتقدم أم دقرسي الصفوف في ميادين الشرف، وأن تزف أبناءها شهداء على مذبح الحرية.
وعندما نادي منادي الحرب واشتعلت في قلب الوطن النازف كان العقيد مصطفى حمودة في مقدمة الصفوف حاملاً روحه على كفه، مدركاً أن الوطن أغلى من الحياة ليرتقي شهيدا في أول أيام الحرب مع رفاقه الاخيار الذين كسروا شوكة التمرد ليروي بدمائه أرضاً عشقها منذ الصغر ويضيف اسمه إلى سجلٍ لا يضم إلا العظماء ليرقد جسده الطاهر هناك في قلب قيادة الجيش حيث قصص البطولة وملاحمها لا تنتهي.غير بعيد شكل شباب ام دقرسي درعا منيعا للوطن وسيفا مسلطا لصد الغزاة لتتوالي قوافل الشهداء كما تتوالي الفصول ،فعلي إيقاع البطولة ترجل احد فرسانها في أقصي غرب السودان العقيد عياد حيث مدينة الجنينة علي تخوم السماء وفواصل الجغرافيا،هناك روت دماؤه الطاهرة الارض وزرعت في ترابها بذور وحدة لا ينقضي اجلها ولا يُنقض غزلها لتزهر يوما في سودان مابعد الحرب. وقبل ان تجف كل هذه الدماء العزيزة ودعت ام دقرسي شباب غُر قاتلوا كتفا بكتف في معركة الكرامة مستنفرين بقوة لا تلين وعزيمة لاتقهر ،وحين أطل تمرد الغدر كظل ثقيل يجتاح ربوع الجزيرة الوادعة وقف شبابها كالعهد مع التاريخ وبيعة الأنفس لله شامخين كالجبال بصدور عارية ليسطروا بدمائهم ملحمة جديدة من المجد إذ ارتقي تسعة من فلذة أكبادها شهداء في ذلك اليوم المهيب كأنهم نجوم تضيء دروب العزة والكرامة ومنهم من تعمّق في سابق زمان في أحراش الجنوب وجباله الصلدة بحثا عن الشهادة لينالها عزيزا بين اهله دفاعا عنهم فالحياة التي تُباع رخيصة من اجلهم تُبعث من جديد كطائر الفينيق من تحت الرماد وذاكرة الأوطان.
ام دقرسي لم تكن وحدها بل كانت نبضا من قلوب الجزيرة الصافية التي أراقت من دمائها الكثير لتصون شرفها وتحفظ كبريائها من بغي الأعادي فكل مدينة او قرية او زقاق كان شاهدا علي ان الكرامة واجبة الفداء والعرض لا يحفظ إلا بالدم .
هذا المجد والتضحيات الملهمة ستبقي في صفحات الزمن بيضاء ناصعة تحكي حكاية شموخ ارض لم تنحني وشعب لم يحمل في جيناته المذلة. التحية لام دقرسي وشهدائها في معركة التطهير والتحية لكل ارض احتضنت دماء الأطهار وآخرها ارض البطانة حيث ضمت بين الضلوع محمد الهادي، والتحية لكل يد قابضة علي الزناد لتحمي الوطن والتحية لكل قلب وافقت خفقاته ودقاته ساعة الوطن.